لقد كثر التساؤل في هذه الآونة عن حكم المسح على (الجورب) في الوضوءوهل هذه الجوارب التي يلبسها الناس الآن تأخذ حكم الخف فيجوز المسح عليها أم أنهناك فرقا بينهما؟
ولأهمية هذا الأمر الذي يتعلق بركن من أعظم أركان الإسلام وهو الصلاة, رأينا أن نكتب هذه المطويةلتعريف الناس بالحكم الفقهي الصحيح فيذلك.
وآثرنا أن تكون المطوية على طريقة السؤال والجواب, من أجل التيسير على القارئ.
س1:هل يجوز لنا أن نمسح على الجوارب التينلبسها تحت الأحذية قياسا على الخف أم أن هناك فرقابينهما؟
إن الصلاة من أعظم أركان الإسلام, وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة ، فإذا فسدت فسد سائر عمله, وللصلاة شروط وأركان لا تصح مندونها.
لذلك فإن علينا أن نحرص على الإتيان بشروطها وأركانها تامة, ولا نتساهل فيها حتى تصح صلاتنا.
وإن من شروط صحة الصلاة الطهارة التي تكون بالوضوء ، ومن أركان الوضوء غسل القدمين إلى الكعبين هذاهو الأصل.
وقد رخص الشرع لمن لبس الخفين أن يمسح عليهما, تيسيرا على الناس, ولكن للمسح على الخف شروط إذا لم تتحققلم يجز المسح.
يقول الإمام النووي في بيان شروط المسح (المنهاج : 7 ) : ((وشرطه أن يُلبس بعد كمال طهر, ساترا محل فرضه, طاهرا , يمكن تباع المشي فيه لتردد مسافر لحاجاته)) .
فلو فقد شرط من الشروط السابقة لم يجز المسح عليه ولم تصح صلاة من مسح في هذه الحالة.
فلو لم يلبس الخف على طهارة, أو لم يكن المشي عليه ممكنا لكونه خفيفا أو رقيقا أو لا يمنع نفوذ الماء كماهو الحال في الجوارب التي يلبسها الناس الآن تحت الأحذية فلا يجوز أن يمسحعليها.
وقد نص فقهاؤنا على ذلك فيقول الإمام النووي:
(( ولا يجزئ منسوجا لا يمنع ماء في الأصح)) . ( المنهاج: 7 )
والجوارب المنسوجة التي نلبسها الآن ليست خفًا ، ولم تجتمع فيها شروط المسح, فهي خفيفة لا يمكن متابعة المشي عليها, ولذلك لا تلبس إلاتحت الأحذية, وهي لا تمنع نفوذ الماء, ومن هنا يتبين أن قياس مثل هذه الجوارب علىالخف لا يصح.
ومع ذلك نرى أن ظاهرة المسح على الجوارب الرقيقة منتشرة بين الناس للأسف, إما لبعدهم عن الفقه وجهلهموتساهلهم في أمور دينهم, وإما لتقليدهم من أخطأ في هذه المسألة وشذ عن جمهور فقهاءأهل السنة في ذلك.
س2: ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الجورب, فما المقصود بالجورب هنا؟
نعم, ورد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على جوربيه ونعليه . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم . ورواهالترمذي وقال عَقِبَهُ: هذا حديث حسن صحيح.
لكن هذا الحديث ضعفه جمع كبير من الأئمة الحفاظ, وإذا كان كذلك فلا يمكن العمل والاحتجاج به هنا, وعلى فرض صحته فإنه محمول على أنالمقصود بالجورب هو الجورب الثخين القوي الذي يمكن متابعة المشي عليه, أو الجوربالمنعل الذي يجعل له نعل من أسفله فيمكن المشي عليه. وهذا بخلاف الجوارب المنسوجةالتي يلبسها الناس الآن.
يقول الإمام النووي مبينا حال الحديث السابق: (( والجواب عن حديث المغيرة منأوجه:
أحدها : أنه ضعيف, ضعفه الحفاظ, وقد ضعفه البيهقي ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري, وعبد الرحمن بن مهدي, وأحمد بن حنبل, وعلي بن المديني, ويحيى بن معين, ومسلم بن الحجاج, وهؤلاء هم أعلام أئمة الحديث, وإن كان الترمذي قال: حديث حسن , فهؤلاء مقدمون عليه, بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذيباتفاق أهل المعرفة.
الثاني: أنه لو صح لحمل على الذي يمكن متابعة المشي عليه , جمعا بين الأدلة, وليس في اللفظ عموم يتعلقبه.
الثالث: حكاه البيهقي رحمه الله عن الأستاذ أبي الوليد النيسابوري أنه حمله على أنه مسح على جوربين منعلين, لا أنه جورب منفرد ونعلمنفردة, فكأنه قال : مسح على جوربيه المنعلين. وروى البيهقي عن أنس بن مالك رضيالله عنه ما يدل على ذلك)) . ( المجموع: 1/ 566) .
قلت: والإمام الترمذي نفسه فسر الجورب في الحديث بالجورب الثخين, أي الذي يمكن متابعة المشي عليه.
فيقول بعد أن أورد الحديث السابق في جامعه ( رقم 99 ) :
(( وهو قول كغير واحد من أهل العلم, وبه يقول سفيانالثوري, وابن المبارك, والشافعي, وأحمد, وإسحاق, قالوا: يمسح على الجوربين وإن لميكن نعلين, إذا كانا ثخينين)) .
فنرى أن الترمذي نقل اشتراط الثخانة في الجوربين بعد أن أورد الحديث السابق, وهذا الشرط غير متحقق فيالجوارب المنسوجة الرقيقة التي يلبسها عموم الناس الآن, ولا يمكن متابعة المشيعليها ولا تمنع نفوذ الماء, ولهذا لا يصح قياسها على الخف أو الجورب الثخين المنعلالذي كان يلبس لوحده ويمكن المشي عليه.
س3:ما هو المعتمد عند فقهاء المذاهبالأربعة ( الأحناف, والمالكية, والشافعية, والحنابلة) في حكم المسح على هذه الجوربالمنسوجة التي يعتاد الناس لبسها تحت الأحذية ؟
ذكرنا كلام النووي أن ذلك لا يجوز, وإليك كلام بعض أئمة أهل السنة المعتمد في المذاهب الأربعة باختصار:
:: مذهب الأحناف::
المفتى به في مذهب الأحناف أن من شروط الملبوس على القدمين حتى يصح المسح عليه أن يكون ثخينًا يمكن متابعة المشي عليه, وما لم يكن كذلك فلا يجوز أنيمسح عليه.
قال الإمام علاء الدين الحصكفي الحنفي في الدر المختار ( 1 / 269 ) شارحا قول المصنف ( أو جوربيهالثخينين, والمنعلين, والمجلدين) : (( الثخينين بحيث يمشي فرسخًا ويثبت على الساقبنفسه)) . – الفرسخ عند الأحناف يساوي 5565مترا-
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه ( الفقه الإسلامي وأدلته: 1 / 344) مبينا مذهب الأحناف : (( المفتى به عند الحنفية جواز المسح علىالجوربين الثخينين بحيث يمشي عليهما فرسخا فأكثر, ويثبت على الساق بنفسه, ولا يرىما تحته)).
وعلى ذلك فإن المسح على الجوارب الرقيقة كما يفعله الكثير اليوم لايصح.
:: مذهب المالكية::
يرى المالكية أن الملبوس الذي يجوز المسح عليه هو الخف أو الجورب بشرط أن يكون مجلدًا يمكن متابعة المشي عليه, فيحب أن يكون الممسوح جلدًا وإلا لميجز المسح عند المالكية.
يقول الإمام أبو الضياء خليل المالكي في مختصره (ص 26) : (( رخص لرجل وامرأة وإن مستحاضة بحضر أوسفر مسح جورب جلد ظاهره وباطنه)) .
فإذا لم يكن مجلدًا لم يجز المسح عند المالكية, ولذا فإنهم لا يجوزون المسح على هذه الجوارب الرقيقةالمنسوجة من صوف ونحوه.
:: مذهب الشافعية::
يرى فقهاء الشافعية كغيرهم من الفقهاء أن هناك شروطًا معتبرة في الملبوس حتى يصح المسح عليه, وقد بينوا أن من هذه الشروط المعتبرة في الخفين وماشابههما:
1 – أن يلبسهما بعدتمام الطهارة.
2 – أن يكون المبوسطاهرًا.
3 – أن يكون ساترًا لمحل الغسل ، أي يغطي القدمين إلىالكعبين.
4 – أن يكون الـملبوس قويًا – ثخينًا – يمكن متابعةالمشي عليه ، من دون حاجة إلى حذاء وما شابهه.
5 – أن يمنع نفوذ الماء ، أي لو صب عليه الماء لم ينفذإلى القدم.
والملاحظ أن الشرطين الأخيرين لا يتوفران في الجوارب التي يعتاد الناس لبسها الآن ، فهي ليست قوية ثخينة، ولا يمكن متابعة المشي عليها ، فيحتاج لابسها إلى الحذاء أو النعل . كما أنها لاتمنع نفوذ الماء إلى القدم ، ولهذا فلا يجوز عندهم المسح على مثل هذه الملبوسات.
قال الإمام النووي في المجموع (1/564 ) :
(( الصحيح من مذهبنا أن الجورب إن كان صفيقًا يمكنمتابعة المشي عليه جاز المسح عليه ، وإلا فلا)) .
ويقول أيضًا في المجموع (1/567 ) :
(( أما ما لا يمكن متابعة المشي عليه لرقته فلا يجوزالمسح عليه بلا خلاف)) .
ويقول الإمام ابن حجر الهيتمي في المنهاج القويم (ص78) في شروط المسح على الخفين : (( وأن يكون مانعًا مننفوذ الماء لو صب عليه ، فالعبرة بماء الغسل ، فلا يجزئ نحو منسوج لا صفاقة له)) .
وهذه الشروط لا تنطبق على الجوارب المنسوجة الرقيقة التي يلبسها عموم الناس تحت الأحذية ، فلا يجوز المسح عليها عندهم.
:: مذهب الحنابلة::
المعتمد في مذهب الحنابلة جواز المسح على الخف وما في معناه بشروط غير متوفرة في الجوارب المنسوجة المعتاد لبسها الآن.
وقد نص أئمة الحنابلة في كتبهم الفقهية على جواز المسح على الجورب ، إلا أنهم يقصدون به الجورب القوي الذي يمكن متابعة المشيعليه.
يقول إمام الحنابلة موفق الدين ابن قدامة المقدسي مفصلاً ذلك في كتابه الكافي : (1/76) أثناء ذكره لشروط المسح على الخفين:
(( الشرط الثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه ، فإن كانيسقط من القدم لسعته أو ثقله ، لم يجز المسح عليه ، لأن الذي تدعو الحاجة إليه هوالذي يمكن متابعة المشي فيه ، وسواء في ذلك الجلود واللبود والخرق والجوارب..)) .
ويقول الإمام شمس الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي في الشرح الكبير (1/281) :
(( والجورب في معنىالخف ، لأنه ملبوس ساتر لمحل الفرض ، يمكن متابعة المشي فيه ، أشبه الخف.
وقولهم : لا يمكن متابعة المشي فيهما . قلنا : إنما يجوز المسح عليهما إذا ثبت بنفسه ، وأمكن متابعة المشي فيه ، وإلا فلا . فأماالرقيق فليس بساتر)) . ومثله في كشاف القناع للشيخ منصور البهوتي.
والبعض لم يفهم كلام الحنابلة ، وجوز المسح على الجوارب الرقيقة التي لا يمكن متابعة المشي عليها مع أن فقهاء الحنابلة كما رأينا يشترطونذلك ، إلا أنهم لم يشترطوا أن يكون الجورب منعلاً أو مجلدًا.
والبعض يعزو خطأَ جواز المسح على الجوارب الرقيقة إلى الإمام ابن تيمية ، والصحيح أن ابن تيمية لم يخرج عن مذهب الحنابلة في هذه المسألة، ولم يجوز المسح إلا على الجوارب الثخينة التي يمشى فيها ، بخلاف الجوارب المنسوجةالآن.
فيقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/214) بعد أن سئل عن المسح على الجورب: (( نعم ، يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواءكانت مجلدة أو لم تكن)) .
ويقول الإمام ابن القطان الفاسي في كتابه الإقناعفي مسائل الإجماع : المسألة رقم (351) :
(( وأجمع الجميع أن الجوربين إذا لم يكونا كثيفين لم يجزالمسح عليهما)) .
وبذلك يتبين أن شرط الثخانة والمشي على الخفين والجوربين من الشروط التي أجمع عليها جمهور فقهاء أهلالسنة والجماعة ، والمخالف لذلك لا تصح صلاته عند جمهور الفقهاء.
س4:ما حكم صلاة من يصلي وقد مسح جوربهالرقيق المنسوج من صوف أو قطن أو نحوهما ؟
قد تبين لنا مما مر أن وضوء من فعل ذلك غير صحيح في المعتمد من المذاهب الأربعة ، وإذا لم يصح وضوؤه فلا تصح صلاته ، وعليه إعادتها.
وهناك من المعاصرين من يرى جواز ذلك تيسيرًا على الناس ، ولكن التيسير لا يكون بمخالفة شرط اتفق عليه جمهور فقهاء أهل السنة من المذاهبالأربعة ، ولا شك أن صلاة متفقًا على صحتها أفضل من صلاة مختلف فيها ، والورعوالاستبراء للدين يقضيان بترك التساهل ، والأخذ بالأحوط ، وخاصة في مسألة تتعلقبركن من أعظم أركان الإسلام وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة ولنتذكر قوله صلىالله عليه وآله وسلم : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) – رواه الترمذي-
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرألدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام )) . – متفق عليه- .
One Comment
badri
بارك الله فيكم على الشرح الوافي